كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولا ندرى السبيل الذي نستردّ به هذا البيت.. أهو بالحرب أم بالسلم، ولكن الذي ندريه ونستيقنه، هو أن هذا البيت لابد أن يعود للمسلمين، وأن يدخل في دولة الإسلام، وأن غربته في يد اليهود ستنتهى حتما، ويعود الغريب إلى أهله.. إن شاء اللّه..
هذا عن الإسراء..
أما المعراج، فإن حديثه يطول.، ولكنّا سنكتفى بلمحات نشير بها إليه، لنكشف عن تلك المقولات التي قيلت فيه.. بلا حساب، ولا تقدير، حتى اشتبه فيه الحق بالباطل، وغلب فيه الخيال على الواقع.
قصّة المعراج:
والمراد بالمعراج، هو عروج النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- أي صعوده إلى السماء، من بيت المقدس بعد أن أسرى به إليه..
والآيات التي يستند إليها الذين يصورون حديث المعراج هي ما جاء في أول سورة النجم في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى}.
وهذه الآيات محتملة لكثير من التأويلات، بحيث لا يرى فيها المعراج إلّا بعد جهد، وطول نظر، ومن خلال ثقب ضيق جدّا.، وذلك ليكون المعراج في حدود هذا الإطار، الذي يومأ فيه إليه إيماء، ولا يتحدّث عما احتواه من أسرار وعجائب، لم يطلع عليها إلا الرسول وحده، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر..!
وقد رويت عن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- أحاديث عن المعراج، تحدّث بها إلى بعض أصحابه، في بعض ما رأى من آيات ربّه، ولم تكن هذه الأحاديث إلا إشارات أشار بها الرسول الكريم إلى بعض ما رأى من ملكوت اللّه، مما تنشرح به صدور المؤمنين، ويزداد به إيمانهم نورا ويقينا! وليس في هذه الأحاديث- إن صحت- ما يتصل بالعقيدة، أو يضاف إلى الشريعة.
ولكن الذي يقرأ القصص التي صورت فيها رحلة المعراج، يجد فيها كثيرا من الدّسّ، والكذب، والتلفيق! ولليهود هنا، في هذه القصة، دور كبير في دسّ الأخبار، وتلفيق الأحاديث، حيث المجال فسيح، يتسع لكل قول يقال في هذا العالم العلوى، وفى المشاهد التي يمكن أن يشهدها من يصل إلى هذا العالم ويطوّف به..
وأبرز ما نراه من دسّ اليهود هنا، هو ما يروى في حديث المعراج، من اللقاء الذي كان بين النبي وبين موسى- عليهما الصلاة والسلام- وأن موسى سأل النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- عما افترض اللّه على أمّته من الصلاة، فلما قال النبىّ لموسى: «إنها خمسون صلاة افترضها اللّه سبحانة وتعالى على المسلمين في اليوم والليلة، قال له موسى: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك».. ثم تقول الرواية: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، رجع إلى المولى سبحانه وتعالى، وسأله التخفيف فاستجاب له ربّه فجعلها أربعين، فلما عاد النبىّ إلى موسى وأخبره بما خفف اللّه سبحانه وتعالى من الخمسين إلى الأربعين- قال موسى: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك.. ثم تمضى الرواية فنقول: إن النبىّ ما زال يراجع ربه، فيخفف عنه، ثم يعود إلى موسى فيطلب منه أن يسأل زيادة في التخفيف.. فكانت ثلاثين، ثم عشرين، ثم عشرة.. ثم خمسة..
وعندها قال النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- لموسى: «لقد استحيت من ربى»..!! وبهذا أصبحت فريضة الصلاة خمسا في العمل وخمسين في الأجر!!.
هذه الرواية تشير إلى أمور.. منها:
أولا: أن تجعل لموسى عليه السلام، ما يشبه الوصاية على النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وهذا من شأنه أن يجعل لليهود منزلة على المسلمين أشبه بهذه المنزلة.. هذا، إذا جعلنا في اعتبارنا أن هذا الخبر المدسوس، إنما يحدّث به المسلمون، دون أن يرى أحد أن لليهود شأنا فيه، إذ كانوا ينكرون نبوّة النبىّ أصلا، فكيف يعترفون بعروجه إلى السماء! وهذا ما يجعل لهذا الحديث، هذا الأثر الذي أشرنا إليه! وثانيا: ما وجه الحكمة في أن يكون من تدبير اللّه سبحانه وتعالى أن تجىء فريضة الصلاة على هذا الأسلوب الذي يشبه أسلوب المناقصات!! والذي يبدأ بخمسين صلاة، ثم ينتهى بخمس صلوات؟ وما الحكمة في أن يغدو النبىّ الكريم، ويروح بين موسى وربّه كل هذه الغدوات والروحات؟
ألا غدوة وروحة واحدة تكفى إن كان لابد من هذا؟.
إن ذكاء واضع هذه الرواية قد أبى عليه إلّا أن يجيب عن هذه التساؤلات، وأن يكشف عن وجه الحكمة في هذا، فيجعل من تمام الروآية: «أنها خمس في العمل وخمسون في الأجر» !!
وهذا الذي جعله واضع الرواية وجها داعيا إلى قبولها، هو في الواقع الوجه الذي يكشف عن ردّها.. إذ ليست الصلاة وحدها هي التي تختص بهذه المزية في اعتبار الصلاة بعشر صلوات، بل إن كل الأعمال الطيبة توزن عند اللّه سبحانه وتعالى بهذا الميزان، كما يقول سبحانه وتعالى: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها}.
هذا، وقد فصّل القاضي عياض في كتابه الشفا مذاهب القول في الإسراء والمعراج.، وهل كان مع الإسراء معراج؟ وهل كان الإسراء بالروح وحده؟ أو بالروح والجسد معا؟
يقول القاضي عياض: اختلف السلف والعلماء: هل كان إسراؤه- عليه الصلاة والسلام- بروحه أو جسده على ثلاث مقالات:
1- فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام، مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء حق، ووحي.، وإلى هذا ذهب معاوية، وحكى عن الحسن البصري- والمشهور عنه خلافه- وإليه أشار محمد بن إسحاق.، وحجتهم قوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} وما حكوه عن عائشة رضي اللّه عنها من قولها: ما فقد جسد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
2- وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد، وفى اليقظة وهذا هو الحق، وهو قول ابن عباس، وجابر، وأنس، وحذيفة، وعمر، وأبى هريرة، ومالك بن صعصعة، وأبى حية البدري، وابن مسعود، والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن المسيب، وابن شهاب، وابن زيد، والحسن، وإبراهيم، ومسروق، ومجاهد، وعكرمة، وابن جريج.، وهو قول الطبري، وابن حنبل، وجماعة عظيمة من المسلمين.، وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدّثين، والمتكلمين، والمفسرين.
3- وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة، إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء، الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة، والتمدح بتشريف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم به، وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه.. قال هؤلاء: ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد عن المسجد الأقصى، لذكره، فيكون أبلغ في المدح.
وبعد أن انتهى القاضي عياض من عرض هذه الآراء، عرض رأيه هو، فرجح جانب القول بأن الإسراء كان بالروح والجسد معا.. فقال: والحق من هذا، والصحيح إن شاء اللّه، أنه إسراء بالروح والجسد في القصة كلها- أي الإسراء والمعراج- وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار ثم يقول: وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، إذ لو كان مناما لقال: بروح عبده ولم يقل بعبده وقوله تعالى: {ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى}، ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولا استبعده الكفار، ولا كذبوه فيه، ولا ارتدّ به ضعفاء من أسلم، وافتتنوا به.. إذ مثل هذه المنامات لا ينكر.. بل لم يكن ذلك الإنكار منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه، وحال يقظته.
وممن قال بأن الإسراء كان بالجسد والروح معا.. البيضاوي في تفسيره، وقد أراد أن يخرج هذا الرأى على أسلوب البحث العلمي، وأنه من الممكنات التي لا ينكرها العلم.. يقول البيضاوي: والأكثر أي من آراء العلماء أنه أسرى بجسده إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السموات، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، ولذلك تعجّب قريش واستحالوه، ثم يقول: والاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفى قرص الشمس ضعف ما بين طرفى كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة، ثم إن طرفها- الشمس- الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية!! وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض، وأن اللّه سبحانه قادر على كل الممكنات، فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، أو فيما يحمله، والتعجب من لوازم المعجزات والذي نقف عنده من كلام البيضاوي هنا قوله: وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض، وهذا يعني أن الأجسام جميعها ترجع إلى أصل واحد، وأن هذا الأصل قابل لجميع الأعراض التي تقبلها الأجسام، بمعنى أن المادة التي شكل منها كائن ما، قابلة لأن يشكل منها كائن آخر مخالف له، مع اختلاف في نسب الأجزاء التي يتكون منها الكائن وفى أوضاع هذه الأجزاء، بل إن ذلك نفسه واقع في أجزاء الكائن الواحد فالعين مثلا هي من نفس المادة التي تخلّق منها الأنف، أو الكبد أو القلب، أو الشعر.. فكلها جميعا ترجع إلى ما عرف اليوم باسم الذرّة أو ما كان يعرف قديما بالجوهر الفرد.. فمن كتل الذرات تتكون الأجسام، ومن الاختلاف في بناء الذرات، وترتيب أوضاعها، تظهر الأجسام في صورها وأشكالها.
وهذا ما فهمه البيضاوي وقرّره في قوله: إن الأجسام متساوية في قبول الأعراض يعني أنه من الممكن أن يتحلل جسم الإنسان- مثلا- إلى ذرات فيصبح كائنا لطيفا غير مرئى، ثم يعاد تركيبه إلى وضعه الأصلى، فيكون جسدا كثيفا كما كان.. كل ذلك في لحظة خاطفة كلمح البصر أو هو أقرب، دون أن يخرج الجسد عن سلطان الروح في حالى تحليله أو تركيبه..! وذلك هو الإعجاز أو المعجزة التي تظهر من انتقال النبي الكريم بجسده الشريف إلى المسجد الأقصى، أو العروج به إلى السماء في طرفة عين! ونعود بعد هذا، فنقول: إن الخلاف في أن الإسراء والمعراج، كان بالجسد، وبالروح، خلاف لا يؤثر في حقيقة الإسراء، وما نال الرسول الكريم فيه من ألطاف ربه، وما رأى من آياته.، وإن قدرة اللّه سبحانه وتعالى لا تتقيد بتلك القيود التي تحكمها الضرورات البشرية، وخير من هذا الخلاف الذي يذهب بجلال الإسراء، ويعبث بالستر الخفىّ الملقى عليه من عالم الروح- خير من هذا أن ننظر إلى الرسول الكريم في موكب جلاله وعظمته، تحفّ به ألطاف ربه، وتحدوه رعايته، إلى حيث يسبح في عالم الحق، ويطعم بروحه من طيبات الملأ الأعلى أما أن نجسّد العالم العلوىّ، ونحيله إلى أشياء من عالم التراب الذي نعيش فيه، فذلك مما يهوّن من خطر الإسراء والمعراج، ويزرى بقدرهما، ويبخس من قيمتهما.
إن الذي يطالع قصة الإسراء والمعراج، على تلك الصورة أو الصور المجسدة التي تعرضها كتب السيرة، والتفسير، ليموت في نفسه كثير من تلك المشاعر الروحية، التي كان خليقا أن يثيرها فيه حديث الإسراء والمعراج، لو أزيح من طريقه هذا الركام الكثير من العوائق والسدود.، ولا تنخدع لتلك الأصباغ الساذجة التي يلطخ بها القصاص وجه الحقائق المادية، ليحعلوا لها بتلك الأصباغ وجها تدخل به إلى العالم العلوىّ.. فإن هذا المكياج المصطنع يجعل منها مسخا أكثر منها حقيقة، فالبراق مثلا الذي يأخذ في حديث الإسراء لونا بارزا صارخا- والذي يهيأ للرسول ليتخذ منه مطية إلى العالم العلوي- هذا البراق ليس إلا أتانا ركب عليه جناحان من ريش، فصار أشبه بلعبة من لعب الأطفال التي يؤلفونها من حطام بعض لعبهم التي انتهى دورها معهم..! ثم هذا الحجر الذي يشدّ إليه الأنبياء دوابهم عند المسجد الأقصى، وتلك الحلقات المغروسة في هذا الحجر لتمسك المقاود واللّجم- إنها جميعها لتمسك بالمعاني الكريمة العالية التي كان يجدها المرء في نفسه لو أزاح هذا الحجر من طريقها، وانزاحت معه اللّجم والمقاود والسروج وغيرها، مما يكون في مرابط الحيوان! وعلى أي فإن الإسراء، على أية صورة وقع، لم يكن فيه ما يخرج النبىّ الكريم عن بشريّته، ويباعد ما بينه وبين الإنسان الذي هو محمد فقد عاد الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- بعد الإسراء، ولقى قومه مؤمنين، وكافرين، فلم ينكر أحد من أمره شيئا مما كان يعهد فيه.. حتى إن أعداءه أنفسهم لم يجدوا عليه أمارة من أمارات هذه الرحلة المباركة فإن خيرها كلّه كان مخبوءا في كيانه، منطويا في صدره، ساريا في روحه.
إنه شأن من شأن اللّه مع نبيّه، وزاد روحىّ زوّده به ربّه، تكريما له، وترويحا عن كيانه المجهد المكدود.
وحديث المسلمين عن الإسراء، ينبغى أن يكون حمدا للّه، وتنزيها له، وثناء عليه، أن أنزل نبيّهم هذا المنزل الكريم، ورفعه إلى هذا المقام العظيم، وأفاض عليه ما أفاض من ألطافه ومننه.، وهذا ما يدعونا إليه اللّه سبحانه وتعالى في قوله جل شأنه: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي فسبّحوا اللّه واحمدوا له، أن أسرى بعبده محمدا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأن أراه من آياته وأسبغ عليه من آلائه، ما هو أهل له عند ربّه {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. اهـ.